الحمد لله القائم بالعدل، فاسمه العدل، وقوله عدل وفعله عدل وحكمه عدل وصفته العدل القائل في محكم التنزيل آمرًا عباده بالعدل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، وقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ} [الأنعام: 152]، والصلاة والسلام على نبيه محمد المبعوث بالعدل لإقامته بين الخلق والأهل.
أخي في الله؛ أيها الداعية المكرم:
أحييك بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنه من المعلوم من منهج أهل السنة والجماعة أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويبذلون النصيحة، ويلتزمون أمر الله في ذلك حيث يقول: {وَقُل لعبادي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53].
وعليه فإننا ننصح إخواننا الدعاة بما يلي:
أولًا: أن الدعوة إلى عقيدة السلف ومنهجهم، ليست وكالة حصرية يقوم بها فرد أو جماعة دون غيرهم، فواجب الدعوة بقسميه لازم على جميع أبناء الأمة كل حسب علمه وحاله، وتخصصه، ومكانه، فالله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» وهذه نصوص عامة لم تخص أحدًا دون أحد، وعليه فلا يصح اعتبار من لم يكن تابعًا لهذا الشخص أو لتلك الجماعة أنه خارجًا عن دائرة أهل السُنّة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي غير النبي r ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون). [مجموع الفتاوى 20/ 164].
(فأهـل السُنّـة والجماعـة هـم المتبعون لمـا كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونسبتهم إلى سُنّة الرسـول صلى الله عليه وسلم التي حثّ على التمسك بها) من كلام الشيخ عبدالمحسن العباد.
ثانيًا: أنه ينبغي على أبناء هذه الدعوة في ظل غياب الولاية العامة التعاون فيما بينهم، فيما يتفقون عليه تنفيذًا لأمر الله، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، ولا يكون الاختلاف بينهم في وسائل العمل واختلاف المواقع سببًا للفُرقَة وإقامة حد الولاء والبراء. (ولا شك أن الواجب على أهل السُنّة في كل زمان ومكان التآلف والتراحم فيما بينهم والتعاون على البر والتقوى) من كلام الشيخ عبدالمحسن العباد.
ثالثًا: عدم جواز تصنيف الناس بالمفهوم عنهم، بل بالمفهوم منهم، لأن التصنيف من باب الدعاوى، والدعاوى تحتاج إلى بينة، وإذا لم يقم على ذلك بينة فهو من القول على الله بغير علم. قال بكر بن عبدالله المزني: (إياك من الكلام ما إن أصبت فيه لم تؤجر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظن بأخيك)، وقال أبو قلابة عبدالله بن زيد الجرمي كما في الحلية لأبي نعيم: (إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك؛ فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه).
رابعًا: أن قيام صفة من صفات أهل البدع بالمسلم لا تُصيره مبتدعًا، فليس كل من تلبس بالكفر وقع الكفر عليه، وكذا ليس كل من وقع في البدعة وقعت البدعة عليه. قال الشاطبي: (أن هذه الفرق إنما تصير فرقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئيٍّ من الجزئيات، إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعًا...) [الاعتصام 2/ 712- 713].
خامسًا: أن وقوع المسلم بالخطأ فيما يظنه صوابًا لا يخرجه عن دائرة الحق ولا يُؤثّم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع) [الفتاوى 13/ 125].
سادسًا: أن الغلو في بيان خطأ الآخرين بما يظنه البعض واجبًا يؤدي إلى الطعن بكثير من أهل العلم فضلًا عن طلابه؛ قال الإمام الذهبي: (ولو أنَّا كلّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له قُمنا عليه وبدّعناه وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فتعوذ به من الهوى والفظاظة) [السير 14/ 39- 40].
وقال أيضًا: (ولو أنّ كل من أخطأ في اجتهاده- مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق- أهدرناه وبدَّعناه، لقلَّ من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه) [السير 14/ 376].
وقال الإمام أحمد: (لم يعبر الجسر من خراسان مثل إسحاق [يعني ابن راهويه]، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإنّ الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا) [سير أعلام النبلاء 11/ 371].
سابعًا: أن كشف حال المبتدع وتعريته وهجره يقوم على قاعدة شرعية جليلة وهي: (قاعدة المصالح والمفاسد)، ويظهر ذلك من خلال ما يلي:
- أن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر) [الاستقامة].
- أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة والرفق واللين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) [الاستقامة].
ولقوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].
وقال الشيخ ابن باز:
(نوصي إخواننا جميعًا بالدعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، أمر الله سبحانه بذلك جميع الناس ومع المبتدعة إذا أظهروا بدعتهم، وأن ينكروا عليهم،......، فأي بدعة رآها المؤمن وجب عليه إنكارها حسب الطاقة بالطرق الشرعية) [برنامج نور على الدرب: الشريط 844].
وقال الشيخ ابن عثيمين:
(وننصح إخواننا المدرسين في البلاد التي يختلط فيها أهل السُنّة وأهل البدعة أن يحاولوا بقدر المستطاع تأليف أهل البدعة وجذبهم إليهم؛ لأن الشباب لين العريكة سهل الانقياد) [لقاء الباب المفتوح].
(طبيعة النفس البشرية تنجذب إلى القول اللين، ويسهل قيادها إلى الحق بذلك أما مع الجفاء والغلظة والشدة في العبارات فلا يجني إلا النفرة والفتور وإيغار الصدور وانغلاق القلب من سماع الحق والهدى) [إنصاف أهل السنة 258- 259].
والحديث عن البدعة في العموم يختلف عن الكلام مع المخالفين أو المخالف، ففي الحديث عن البدعة لا بد من ذم البدعة، والتحذير منها، وبيان خطرها على الدين.
أما إذا كان الحديث موجهًا إلى مخالف- أو مجموعة مخالفين- فإنه قد يحتاج إلى تأليف قلبه ودعوته إلى منهج أهل السُنّة فيراعى في ذلك الرفق واللين وعبارات التأليف وعدم التعيير.
وهذا ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية برسالته إلى ابن نصر المنيجي، فمدحه وأثنى عليه، راجع مجموعة الرسائل والمسائل 1/ 169- 189.
- هجر المبتدع:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإذا عرف أن هذا هو من باب العقوبات الشرعية؛ علم أنه يختلف باختلاف الأحوال؛ من قلة البدعة وكثرتها، وظهور السنة وخفائها، وأن المشروع قد يكون هو التأليف تارة والهجران تارة أخرى) [منهاج السنة النبوية 1/ 63- 66].
· وراجع كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح في مسألة: (حظر حبس أهل البدع لبدعتهم) وفيه كلام نفيس للإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وقال الشيخ ابن عثيمين:
(أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة، فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره، إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره،.....، فكل مؤمن وإن كان فاسقًا فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة، فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه، لأن الهجر حينئذ دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو، فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة) [المجموع الثمين 1/ 30].
وقال الشيخ ابن باز:
(المؤمن ينظر في هذه المقامات بنظر الإيمان والشرع والتجرد من الهوى، فإذا كان هجره للمبتدع وبعده عنه لا يترتب عليه شر أعظم؛ فإن هجره حق، وأقل أحواله أن يكون سُنّة، وهكذا هجر من أعلن المعاصي وأظهرها أقل أحواله أنه سُنّة، أما إن كان عدم الهجر أصلح؛ لأنه يرى أن دعوة هؤلاء المبتدعين وإرشادهم إلى السُنّة وتعليمهم ما أوجب الله عليهم يؤثر فيهم ويزيدهم هدى، فلا يعجل في الهجر،....) [فتاوى ابن باز].
[والمخلص في فكر ما إذا أخلص فيه يناقش بالحسنى ليتغلب عليه بالبرهان لا بالطعن وإغلاظ القول وهُجر الكلام، وما يضر صاحب الفكر إذا رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صوابًا ويراه غيره خطأ أو يقرب منه].
إنصاف أهل السُنّة والجماعة:
وقال الشيخ الألباني:
(سياسة الولاء والبراء لا تستلزم معاداة أي فئة من الفئات الإسلامية، أو أي طائفة من الطوائف الإسلامية، ولكن يجب أن تعامل كل واحدة منها في حدود قربها أو بعدها من العقيدة الصحيحة، أو من التمسك بالإسلام الصحيح ككل، والمعاداة لا تأتي إلا في حالة اليأس من صلاحها وهدايتها، فهنا يأتي ما هو معروف بالبغض في الله، أما ابتداء فلا ينبغي للمسلم أن يعادي أحدًا من الطوائف الإسلامية ولو كانت مخالفة لعقيدته) [فتاوى الألباني في مكة: شريط رقم 7].
ثامنًا: رحمة أهل السُنّة بأهل البدع:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على الإخنائي:
(وأهل السُنّة والعلم والإيمان يعرفون الحق، ويتبعون الرسول r، ويرحمون الخلق، ويعدلون فيه، ويعذرون من اجتهد في معرفة الحق فعجز عن معرفته،...) [مجموع الفتاوى 27/ 238].
وقد بكى أبو أمامة عندما رأى سبعين رأسًا من الخوارج نصبوا على درج دمشق، وقال عندما سئل عن ذلك: (بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام).
فلابد من التأني ومراعاة التدرج في التأثير على المخالف مخالفًا كان أو غيره، وذلك بجذبه إلى الحق شيئًا فشيئًا، ولا يستعجل في ذلك،...... دعوة أهل البدع.
تاسعًا: التعاون مع المبتدع:
قال شيخ الإسلام:
(فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرًا من العكس) [مجموع الفتاوى 28/ 212].
عاشرًا: أن السكوت عن البدعة أو المبتدع أحيانًا لا يعتبر تمييعًا ولا تضليلًا ولا كتمًا للعلم، ولا ينسب فاعله إلى فرق المبتدعة، فقد سكت في زمن المحنة من سكت وورى من ورى وقال بخلق القرآن تقية أُناسٌ كثير، وقد كان منهم الشافعي ونعيم بن حماد شيخ البخاري، فهل يكون هؤلاء مبتدعةً مميعين ساكتين عن بيان العلم.
قال الشيخ عبدالمحسن العباد:
(لا يجوز أن يَمتحنَ أي طالب علم غيره بأن يكون له موقف من فلان المردود عليه أو الراد، فإن وافق سلم، وإن لم يوافق بُدِّع وهُجِر، وليس لأحدٍ أن ينسب إلى أهل السُنة مثل هذه الفوضى في التبديع والهجر، وليس لأحد أن يصف من لا يسلك هذا المسلك الفوضوي بأنه مميعٌ لمنهج السلف، والهجر المقيد بين أهل السُنّة ما كان نافعًا للمهجور...) [رفقًا أهل السُنّة بأهل السُنّة].
وفي الختام نؤكد على صلابة رابط الأُخوة بيننا وبين إخواننا الدعاة، وقيامنا بحق هذا الرابط، وأنه لا يجوز لأحد منا أن يوالي أو يعادي على أساس الانتساب إلى مؤسسة أو عدم الانتساب إليها، ولا على أساس الاختلاف في أساليب العمل ومواقعه أو غير ذلك، ونوصي أنفسنا وإخواننا بتقوى الله والعمل على التآلف والتعاون، ونقول لكل أخ انبرى للدفاع عن الحق وبيان الباطل تعلم قبل أن تتعالم، واقرأ كُتب أهل العلم أولًا، المختصر منها قبل المطول، وبالخصوص ككُتيب الشيخ عبدالمحسن العباد (رفقًا أهل السُنّة بأهل السُنّة) وكتاب (دعوة أهل البدع) للزهراني.
والله من وراء القصد.
الكاتب: محمد أبو هدوي.
المصدر: موقع كتاب عبد الله بن مسعود.